إذا كانت نتيجة استفتاء الفرنسيين على الدستور الأوروبي والتي جاءت بالرفض، قد أصابت أوروبا بصدمة شديدة، فإن صدمة الألمان كانت أشد وأكبر. والشعور الألماني بالإحباط من موقف الفرنسيين، له ما يبرره. فألمانيا التي صوتت لصالح الدستور عن طريق البرلمان وليس عبر الاستفتاء الشعبي، تشعر أن لها الفضل الأكبر في أقامة أوروبا الموحدة. وبتصويت ألمانيا وسكانها الـ80 مليون نسمة الشهر الماضي، كان ميثاق الدستور الأوروبي قد حظي بموافقة تسع دول أوروبية، يشكل سكانها 49% من مجموع عدد السكان في الدول الـ25 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، أي حوالي نصف مجموع السكان.
والشعور الألماني بالإحباط من نتيجة الاستفتاء الفرنسي، جاء بعد أن سعت السياسة الألمانية لإقناع أغلب الدول الأوروبية بالتصويت لصالح الدستور الموحد، وهي تشعر اليوم بأن عليها دينا لأوروبا التي دمرتها العنصرية النازية المقيتة على يد هتلر في الحرب العالمية الثانية. وتشعر ألمانيا اليوم بأن قيام "الولايات المتحدة الأوروبية" ببصمات ألمانية هو نوع من رد الدين لأوروبا التي ذاقت الويل، وعقودا من التخلف والرجوع إلى الوراء بسبب النازية التي انطلقت من ألمانيا. ومن هنا سارعت السياسة الألمانية لممارسة نفوذها في إقناع الكثير من البلدان الأوروبية بالموافقة على مشروع الدستور الموحد، وخاصة الدول الحديثة العهد بالاتحاد الأوروبي. فمن أصل تسع دول وافقت على المشروع، هناك ست منها تقع إلى الشرق من ألمانيا، وأغلبها من الدول التي نشأت نتيجة لتفكك الاتحاد السوفيتي السابق، وهي تشعر بأن ألمانيا هي بمثابة خط الحماية لها من الثقل الذي تشكله بقية الدول التي كانت تعرف في الماضي بمجموعة دول أوروبا الغربية.
ولكن لم تجر الرياح بما تشتهي سفينة الاندماج الأوروبي التي تقودها ألمانيا بقوة، فتصويت 54.87% من الفرنسيين بـ"لا" للدستور الموحد للقارة العجوز، وضع مشروع الاتحاد الأوروبي برمته في مهب الريح وأدخله في نفق هو الأكثر ظلمة منذ البدء بالتفكير في الوحدة قبل حوالي نصف قرن، والرحلة المتعثرة التي قطعتها السوق الأوروبية المشتركة في الستينيات والسبعينيات، وصولا إلى التصويت على معاهدة "ماستريخت" عام 1992.
وربما يسأل سائل عن سبب لجوء الرئيس الفرنسي جاك شيراك للاستفتاء بدلا من تمرير الموافقة عن طريق الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) كما فعلت ألمانيا. والحقيقة هي أن النظام السياسي في كلا البلدين يختلف حول هذه النقطة المحورية. فنفوذ البرلمان في ألمانيا يمتد فوق الرغبة الشعبية، بمعنى أن للبرلمان الكلمة النهائية، وهذا يساعد الحكومة على تمرير القرارات المصيرية عبره عوضا عن اللجوء إلى الاستفتاء الشعبي المباشر. بينما يختلف الأمر في فرنسا، حيث لا يسري نفوذ البرلمان على الرغبة الشعبية، بل يسمح للدستور باللجوء إلى الاستفتاء الشعبي، بدلا من تمرير القرارات المصيرية عبر البرلمان, وهم في ذلك يرون أن تجربتهم الديمقراطية أفضل من التجربة الألمانية.
فرنسا بلد الاستفتاءات الشعبية، وبانتهاء استفتاء الأحد قبل الماضي على مشروع الدستور تكون قد شهدت 9 استفتاءات منذ قيام الجمهورية الخامسة قبل حوالي خمسين عاما، كانت نتيجة سبعة منها "نعم"... والاستفتاء الوحيد الذي كانت نتيجته "لا" أسقط مؤسس الجمهورية "شارل ديجول" وأبعده عن الحياة السياسية على الرغم من أن التصويت الشعبي كان على قانون خاص بالتعليم!. لذا يخشى الفرنسيون أن يسقط استفتاء الأحد على الدستور الأوروبي الموحد الرئيس الحالي شيراك، المدافع الشرس عن مشروع الدستور.